* أولاد محمد علي باشا وأحفاده ومنحهم الإرساليات التنصيرية العون والتأييد:
أما أولاد الباشا وأحفاده من بعده، فقد ظلوا يتعاهدون ما غرسه لهم والدهم وجدهم من غراس التغريب والعلمنة، ويسيرون في نفس الطريق التي مهدها أمامهم، ويتسابقون إلى كسب ولاء الغرب، وخطب وده(فسعيد باشا) قد توالت أعطياته وسخاؤه على منح الإرساليات التنصيرية فوق ما تحلم به من عون وتأييد.
فقد تفضل ذات مرة بإهداء إحدى الإرساليات قطعة أرض بالقاهرة في حي الخرنفش، وليته اكتفى بذلك، بل قام بمنحهم 30 ألف فرنك سنة 1859 م
ومن العجيب أن الأقباط لم ينشئوا لهم مدارس "نظامية" حتى عهد (إسماعيل) حين توالت عليهم هباته فأنشأوا مدرستهم الكبرى بجانب كنيستهم العامة وجعلوا التعليم فيها بالمجان، وأباحوا لبعض المسلمين الالتحاق بها .
أما اليهود فقد كان لهم مدرسة خاصة بابنائهم في عصر " محمد علي " أسسها أحد أثريائهم ويدعى (مسيو كريمو) وسميت المدرسة باسمه.
أما في عهد (إسماعيل باشا) فقد صار لليهود أربعة مكاتب بالقاهرة؛ اثنان منها للبنين ومثلهما للبنات، ولهم مدرسة نظامية بالقاهرة أيضًا، كما أنهم لم يهملوا إنشاء مكاتب لهم بالإسكندرية.
أما طوائف النصارى الأخرى فليسوا أقل مما ذكرنا؛ فإن الطائفة الأرمنية هي من أقل الطوائف في عهد محمد علي التي أنشات مدارس على النظام الأوربي، فقد أسست مدرسة (كالرسديان) ببولاق سنة 1828 م وهي تابعة لبطركخانتها الأرثوذكسية.
أما الطائفة اليونانية ففي سنة 1847 م أسست مدرسة (توستا) بشارع جامع مسجد العطارين بالأسكندرية، وكانت هذه المدرسة أول مدرسة أنشاها اليونانيون بمصر. ومنذ ذلك الوقت أخذوا في تأسيس مدارس لهم.
أما الإيطاليون فقد بدأوا في إنشاء مدارسهم في مصر حوالي سنة 1860م
وبمثل هذه التسهيلات والدعم انتشرت الإرساليات في مصر بشكل كبير، وانبرى النصارى على تنوع جنسياتهم، واختلاف طوائفهم ومذاهبهم يتسابقون في إنشاء المدارس التنصيرية، وتشييد دور العبادة الكنسية دون حسيب أو رقيب، بل قد قدم لهم ما لم يدر بخلدهم من الدعم والتشجيع.
ومع أن هذه المدارس وتلك الإرساليات قد قامت بجهود ضخمة في تحقيق أهدافها التنصيرية، إلا أن نجاحها كان ضعيفًا أو أن النجاح لم يحالفها، وذلك بسبب ما قدمناه في بداية هذا الموضوع من أن الجماهير المسلمة كان يرتكز في قلوبها بغض الكافرين وعداوتهم.
ومع هذا الفشل الذريع الذي منيت به هذه المؤسسات الصليبية فقد
حاول القساوسة والمنصرون أن يلجأوا إلى وسائل أخرى ويغطوا على ما يرمون إليه من أهداف باتت مكشوفة، فقام أحدهم ويدعى (بارثلميو) بفتح مدرسة بالاكتتاب لتعليم الأطفال من جميع الأديان، فقبل (محمد علي) أن تقوم الحكومة المصرية بجميع نفقاتها على ألا يدخلها إلا الصريون فقط بشرط عدم التدخل في ديانتهم
حقا إنه شرط غريب .. فكيف يعهد بمدرسة للأطفال إلى قسيس نصراني ثم يشترط عليه عدم التدخل في ديانتهم؟ وفي اعتقادنا أن هذا الشرط ليس أكثر من طعم في ذلك الشرك الذي اتفق على نصبه كل من محمد علي والمنصرين. وذلك للإيقاع بأبناء المسلمين ودفعهم بين براثن التنصير.
أما حين تولى مقاليد الحكم (الخديوي إسماعيل) الذي كان يسعى إلى جعل مصر قطعة من أوربا كما قال فقد تأسست عدة مدارس حرة بالمجان لكل الأديان في سنة 1869 م بسبب رعاية الخديوي ودعمه السخي حتى يحقق أمنيته المنشودة في جعل مصر قطعة من أوربا وفي نفس الوقت الذي كنا نرى خلاله هؤلاء الحكام يتسابقون إلى دعم المدارس الأجنبية وإزاحة العوائق من طريقها، نرى أنهم قد أهملوا تعليم المسلمين في بلادهم فلم يلتفتوا إليه إلا قليلاً.
(فسعيد باشا) في الوقت الذي أهمل فيه تعليم المصريين نجده يقدم إلى المدارس الأجنبية كل التسهيلات التي تساعدها على أداء رسالتها، فقدم إليها الأراضي التي تبني عليها مدارسها مجانًا، ومنحها المساعدات المالية الضخمة -كما سبق أن ذكرنا- والكتب الدراسية التي تطلبها، بل كانت الدولة تدفع مرتبات المدرسين الذين تعينهم المدارس لتدريس اللغة العربية.
وفي رأي أحد المؤرخين الأجانب للتعليم في هذه الفترة أن ما منحه سعيد للفرير والإيطاليين بالإسكندرية يفوق ما أنفقه على ميزانية التعليم طوال حكمه .
ومع الإمعان في السير داخل الطريق التغريبي، والإيغال في منعطفاته ومنحدراته من قبل حكام مصر أصبح عدد المدارس الأجنبية يفوق عدد المدارس الحكومية التي أنشأتها الحكومة في فترات من حكمها؛ ففي سنة 1875م كان عدد المدارس الأجنبية 93 مدرسة، بها 8916 تلميذًا وتلميذة، بينما كان عدد المدارس الحكومية 36 مدرسة، بها 4878 تلميذًا وتلميذة. وفي سنة 1887 م كان عدد المدارس الحكومية 40 مدرسة كان عدد الطلاب فيها 5500 طالب، بينما كان عدد المدارس الأجنبية 191 مدرسة، كان عدد الطلاب فيها 22764 طالب
وفي هذه الأرقام والإحصائيات ما يغني عن التعليق، وبرهان ساطع على تولي هؤلاء الحكام للكفار، وفسح المجال لهم في بلاد المسلمين يعيثون فيها فسادًا، بل وتقديمم الدعم والعون والتشجيع إلى مؤسساتهم وقسسهم ومنصريهم.
أما الاهتمام بالتعليم في الأزهر فأقل ما يمكن أن يقال أنه كان عندهم ملقى في زوايا الإهمال والنسيان
كما رأينا (الباي أحمد) لا يحيد قيد أنملة عن آراء وزيره المؤتمن الفرنسي (جوزاب دافو) ويقوم بتنفيذ ما يقرره ويراه، حتى لو كان ذلك في أخطر أمور البلاد وأهمها كالنواحي الدفاعية والعسكرية لتسقط البلاد فريسة سهلة تحت الاحتلال الفرنسي.
فإن (الخديوي إسماعيل) كان لا يثق إلا بكل ما هو آت من الغرب، وبكل ما هو أوربي؛ ففي المجال العسكري مثلاً كان الضابط الأوربي الجديد مقدمًا على من هو أعلى منه رتبة وأكثر خبرة وتمرسًا من الضباط المصريين والمسلمين بالطبع.
هذه الثقة العمياء التي منحها (الخديوي إسماعيل) العسكريين النصارى، وهذا الولاء المعلن الذي أولاهم إياه كانت له عواقب وخيمة جدًّا، ودفعت البلاد الثمن باهظًا لتلك السياسة الخرقاء. ولعل أصدق مثال على ذلك هو هذه الحادثة المؤلمة التي يرويها لنا واحد ممن عاشوا وقائعها، وهو القائد المعروف (أحمد عرابي) (المتوفى سنة 1329 هـ)؛ فحين قام (الخديوي إسماعيل) بتسيير حملة عسكرية إلى بلاد الحبشة عام 1292 هـ وعهد بقيادتها إلى (راتب باشا) سردار العساكر المصرية، وأمر هذا القائد أن يكون مقيدًا برأي أركان حربه الجنرال (لورنج) وهو أمريكي كما يقول أحمد عرابي: "لا يعرف الفنون العسكرية، وإنما كان رئيس فرقة في الحرب الأمريكية من ضمن الفرق غير النظامية أي (المتطوعين) وكان أكثر رجال أركان الحرب الذين معه من بني جنسه فكان هذا الترتيب سبب الفشل الذي حاق بالمصريين في تلك الحملة".
ثم يذكر أحمد عرابي كيفية سير هذه الحملة ووصولها إلى الحبشة ويبين سبب الفشل الذي منيت به، والمصير الأسود الذي واجهته فيقول: "وكان أحد القسس الفرنساويين المبشرين في بلاد الأحباش يتردد كل يوم على رئيس أركان الحرب الجنرال (الورنج) الأمريكي مستطلعًا أحوال الجيش المصري حتى علم مقداره، واتفق معه على الحركة الحربية التي تكون سببًا لهلاك الفرقة المصرية عند الصدمة الأولى، وكان يبلغ معلوماته كل يوم إلى الملك (ملك الحبشة) فحشد هذا الملك جيشه وكان عدده ينيف على الثلاثمائة ألف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال على حسب عادتهم في الدفاع عن كيان بلادهم"
ثم كتب عرابي فصلاً بعنوان "في خيانة أركان الحرب، الأمريكيين الموظفين في الجيش المصري" فكان مما قاله حول هذه الخيانة: "واستعد جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين للحملة فألقوا جانبًا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم ثم ربطوا في أعناقهم مناديل بيضاء إشارة إلى أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم الخطر عند اختلاط الجيشين على حسب الاتفاق مع القسيس السابق ذكره.
ثم ذكر ما حل بالجيش المسلم من هلاك عظيم، وسقوطه بين قتيل وأسير وجريح، عدا الغنائم التي غنمها الأحباش النصارى من هذا الجيش البائس
* وصدق الله العظيم حين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
"وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال للمشرك ذي الجرأة والنجدة الذي أراد القتال معه في غزوة بدر: " فارجع فلن أستعين بمشرك "
وهكذا كان الجيش المصري المسلم في هذه الحملة الخاسرة ضحية لتآمر الجنرالات الصليبيين الذين ركن إليهم (الخديوي إسماعيل) ووثق فيهم ثقة عمياء، وكبل قائد الجيش العام بأوامر أحدهم ممن ليس لديهم أية دراية بالأمور العسكرية.
بل إننا نكاد نجزم أن هذه الحملة وما تلاها من حملات إلى بلاد الحبشة في عهد (الخديوي إسماعيل) لم تكن من باب التوسع والفتوحات كما يعتبرها كثير من المؤرخين، وإنما كانت من باب إلقاء الجيش المصري إلى التهلكة والإبادة.
ولسنا نهدف بالطبع إلى استقصاء الحديث عنها، والدخول في أسبابها والظروف المحيطة بها، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نشير إلى ما يؤيد ما ذهبنا إليه آنفا لعلاقة ذلك بموضوع الولاء والبراء فنقول أن حكم (الخديوي إسماعيل) في ذلك العصر قد بلغ من الضعف والعجز مبلغًا عظيمًا بسبب الديون الضخمة التي أرهق البلاد بها، مما تمخض عنه أن تستأثر الدول الدائنة وفي مقدمتها دولتا بريطانيا وفرنسا بالسلطة في عهده؛ حيث قامت كل منهما بتعيين وزير مراقب في الظاهر، ومهيمن على نصاب الأمور والسلطة في الحقيقة.
فكيف يمكن لدولة أثقلتها الديون، وأنهكها الإفلاس والعجز أن تسير الحملات الحربية الباهظة التكاليف في بلاد مجهولة وصعبة التضاريس من
أجل التوسع فقط .. ؟ ولماذا لزم الوزيران الصمت حيال هذه الحملات التي ترهق ميزانية الدولة التي عينا لمراقبتها، واستخلاص الديون منها .. ؟
وإذا كان النفوذ الأوربي قد تغلغل في عهد (إسماعيل) تغلغلاً عظيمًا، وأصبحت حكومته وقصوره وسراياه تعج بالأوربيين والأمريكيين، فكيف تسمح أوربا الصليبية ومن ورائها الوزراء والقناصل والجنرالات الموجودون في حكومة الخديوي بأن يقوم هذا الحاكم بغزو الحبشة النصرانية وفتحها.
في الواقع أن هذا أمر لا يمكن حدوثه مطلقًا إلا إذا كانت هناك أهداف غير ظاهرة يراد تحقيقها وأكبر دليل على هذا أن جده محمد علي باشا لما عزم على غزو الحبشة سنة 1840 م حذره السفير الإنجليزي (سالت) وقال له: "تقع الحبشة (أثيوبا) تحت حمايتنا وهي البلد الوحيد في أفريقيا الذي اعتنق الدين المسيحي، وصمدت صمودًا طويلاً مظفرًا خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوربا عامة ومن إنكلترا خاصة أن تقف موقف اللامبالاة إذا ما تعرض هذا البلد للهجوم .. وهناك كثيرون من جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد"
" فن الحرب الإسلامي في العهد العثماني " لبسام العسلي (ص 287) دار الفكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق